Worldwide Locations:

الإطار القانوني وراء المتحف المصري الكبير

لا يقتصر افتتاح المتحف المصري الكبير (GEM) في نوفمبر 2025 على كونه حدثًا ثقافيًا أو سياحيًا، بل يمثل من الناحية القانونية تنفيذًا مباشرًا لمبدأ دستوري سامٍ يتعلق بالسيادة على التراث الوطني.

فالدستور المصري في المادة (٥٠) ينص نصًا حرفيًا على أن:


“تراث مصر الحضاري والثقافي المادي والمعنوي بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، والحديثة، ثروة وطنية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته، والاعتداء عليه أو الاتجار فيه جريمة لا تسقط بالتقادم.”


بهذا النص الدستوري الصريح، يرتقي التراث إلى مصاف الأموال العامة ذات الحماية الدستورية المباشرة، ويصبح واجب حماية هذا التراث التزامًا قانونيًا على عاتق الدولة، وليس مجرد مسؤولية ثقافية أو أخلاقية.

ومن ثم فإن المتحف المصري الكبير لا يُعتبر مشروعًا إداريًا أو هندسيًا، بل كيانًا سياديًا نُشئ لتجسيد التزام الدولة الدستوري بحماية الذاكرة الوطنية.

التأسيس القانوني

أُنشئ المتحف بموجب القرار الجمهوري رقم ٢٨٢ لسنة ٢٠٠٢، الذي نص على إنشاء هيئة عامة تُسمى الهيئة القومية للمتحف المصري الكبير، تتبع وزارة السياحة والآثار، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري.

وقد خوّلها القرار:

  • إنشاء وتشغيل المتحف وإدارته كمرفق عام ذي طابع وطني.
  • عقد الاتفاقات مع الهيئات المحلية والأجنبية.
  • إدارة المنح والقروض المخصصة للمشروع.
  • اتخاذ ما يلزم من تدابير لحماية الآثار المنقولة إلى المتحف.

هذا القرار وضع المتحف في مصاف الهيئات القومية ذات الطبيعة الخاصة، وهي فئة قانونية وسط بين “الهيئة العامة” و“الهيئة الاقتصادية”، تستند إلى مبادئ القانون العام ولكن تُدار وفق آليات القانون الخاص تحقيقًا للمرونة والكفاءة.

وبذلك اكتسب المتحف شخصية قانونية مستقلة، مما يسمح له بإبرام العقود والالتزامات، واقتضاء الرسوم، والتقاضي باسمه، دون الإخلال بخضوعه للرقابة اللاحقة من مجلس الوزراء والجهاز المركزي للمحاسبات.

البنية التشريعية لحماية المقتنيات

تُدار المقتنيات الأثرية للمتحف تحت مظلة قانون حماية الآثار رقم١١٧ لسنة ١٩٨٣ وتعديلاته، والذي نص في المادة (٦) على أن:


“جميع الآثار المنقولة والثابتة ملك للدولة، ولا يجوز تملكها أو التصرف فيها أو الحجز عليها.”


وعليه، فالمتحف لا يملك الآثار ملكية قانونية، بل يحوزها نيابةً عن الدولة بوصفه “أمينًا على المال العام الثقافي”، يخضع في ذلك لرقابة النيابة الإدارية والمجلس الأعلى للآثار.

إضافةً إلى ذلك، فإن الدولة المصرية ملزمة دوليًا بموجب:

  • اتفاقية اليونسكو لعام 1970 الخاصة بحظر ومنع استيراد وتصدير الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة.
  • اتفاقية 1972 بشأن حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي.

وقد صرّحت وزارة السياحة والآثار في قراراتها التنظيمية أن المتحف يُعتبر “مؤسسة مرجعية وطنية” لتطبيق الاتفاقيتين، مما يمنحه وضعًا دوليًا خاصًا داخل المنظومة القانونية للتراث العالمي.

النظام الإداري والمالي

من الناحية القانونية، يخضع المتحف المصري الكبير لمبدأ “الازدواجية القانونية للمرافق العامة”، إذ:

  • تُدار بنيته الأساسية وأمنه وتشغيله وفق قواعد القانون العام، باعتباره مرفقًا عامًا لا يُغلق ولا يُخصخص.
  • في حين تُدار الخدمات التجارية كالمحال والمقاهي والمناطق الترفيهية وفق قواعد القانون الخاص وعقود الاستثمار قصيرة المدى.

وتنص لائحته المالية على اعتماد نظام تمويل مزدوج يجمع بين:

  • الاعتمادات الحكومية السنوية المقررة في الموازنة العامة.
  • الإيرادات الذاتية الناتجة عن الأنشطة والخدمات، وفق أحكام المادة (20) من قانون الموازنة العامة رقم 6 لسنة 2022.

هذا النموذج يحقق مبدأ الاستدامة الاقتصادية للمرافق العامة دون المساس بصفة المال العام، وهو أحد الاتجاهات الحديثة في الفقه الإداري المصري.

الولاية الثقافية والسيادة القانونية على التراث

يمثل المتحف المصري الكبير أحد تطبيقات مفهوم “الولاية الثقافية للدولة”، الذي يقر بأن السيادة لا تُمارس فقط على الأرض والموارد، بل أيضًا على الذاكرة والتاريخ والرموز.

فإدارة التراث ليست نشاطًا ثقافيًا محضًا، بل تعبير عن السيادة القانونية للدولة في المجال المعنوي. ومن هنا فإن افتتاح المتحف بمرسوم رسمي، وتحت رعاية رئاسة الجمهورية، يُعد ممارسة فعلية لهذه السيادة، تمامًا كما تمارس الدولة سيادتها في المجال الجغرافي أو العسكري.

وفي هذا الإطار، تُعتبر حماية مقتنيات المتحف مسؤولية سيادية لا تسقط بالتقادم، وفق نص المادة (٥٠) سالفة الذكر، التي قررت أن جريمة الاعتداء على التراث أو الاتجار فيه لا تسقط بمرور الزمن، وهو استثناء تشريعي نادر يعكس إرادة المشرّع في إسباغ حماية أبدية على هذا النوع من الأموال العامة.

التحليل الفقهي

في الفقه الإداري المقارن، يُدرج المتحف المصري الكبير ضمن فئة المؤسسات العامة ذات النظام المختلط (Établissements publics à caractère mixte)، أي التي تجمع بين أداء خدمة عامة وممارسة نشاط اقتصادي.

فهو يخضع لسلطة الدولة من حيث التأسيس والرقابة، لكنه يتمتع باستقلال وظيفي يتيح له التعاقد الحر والإدارة الذاتية.

وهذا النموذج القانوني يُعبّر عن تطور فلسفة الإدارة العامة في مصر من مفهوم “الوصاية” إلى مفهوم “التمكين”، الذي يمنح المرافق الثقافية استقلالًا تشغيليًا مع بقاء الرقابة القانونية العليا للدولة.

الخاتمة

إن المتحف المصري الكبير هو في جوهره ترجمة تشريعية للمادة (٥٠) من الدستور، وتجسيد عملي لفكرة أن حماية التراث ليست واجبًا ثقافيًا أو اجتماعيًا فحسب، بل واجب دستوري وسيادي.

إنه نموذج حيّ على قدرة الدولة المصرية على تحويل المبدأ الدستوري إلى مؤسسة قائمة، تُمارس فيه أدوات القانون العام والخاص، وتخضع فيه الثقافة لمعيار التنظيم القانوني الدقيق.

وبهذا يصبح المتحف المصري الكبير ليس فقط “بيت الآثار المصرية”، بل بيت القانون المصري أيضًا؛ حيث تتلاقى فيه النصوص مع الحجارة، والسيادة مع الذاكرة، والدستور مع الحضارة.

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

Written By

Maher Milad Iskander - Managing Partner

إرسل رسالتك

Posts - Page Form Ar
Newsletter

door